الجمعة، 28 أكتوبر 2016

مرســى



يقولون ان الوحده دائماً تتمثل في اوقات الليل. لكن ملكتي غير، فهي تميل الى اوقات الظهيره، او في بعض الاحيان مع كوب الشاي في الصباح، ذلك الشاي الشرقي المليئ بالبهارات، مع اللبن المقنن الذي اكره طعمه و رائحته! عجباً لتلك التفاصيل التي تأنف الظهور فقط عندما احتاج السكينه.
لطالما كان الامر معكوساً بالنسبة لي، فعندما كنت طفله كنت اعشق البشر و تجمعاتهم و ارى الاهميه الكبيره في شغف امي و هي تتحدث عن اصناف القهوه، مع العلم انني لم اكن قد تذوقت واحدةً قط. و كلما كبرت، انسحبت اكثر فاكثر من ذلك العالم الوردي، حتى انشأت عالمي المظلم الخاص، سمحت لبعض الاشخاص فقط بالولوج اليه، فقد حظيت بالقدر الكافي من المعارف في حياتي.
لم اتضجر يوماً من عدم التعمق مع الغير، لم الُم نفسي يوماً على ذلك الانعزال الذي انخرطت فيه، ثم انني لم اجد يوماً نفسي ضائعة، أو فاقدة القدره على التواصل. لكن هنا، اليوم، هنالك وِحده.. هنالك فٓقـدْ.. هنالك ثقب اسود قد سحب كل الرضى و لفظ بقنبلة التردد و الضياع! اصبحت هنالك فوضى في كل مكان.
هل يا ترى تلاشى الظل الذي كنت اسكن تحته كل تلك السنين؟
هل يا ترى اصبحت مسؤولةً و بصوره مفاجئه عن ايجاد اسباب و مبررات تفسر غيابي الطويل؟ ام هل يا ترى كانت الصوره واضحة تماماً امامي و لكني عجزت عن ان ارى .. عجزت ان أُبصر تلك اللافته: ( حـــان الوقت لصُنع بعض الحيـاة ) 
احان الاوان يا ترى؟ ان اخرج من تلك الصومعه و ألملم شتات نفسي؟ أحان آوان الانخراط الحسي و الذهاب الى المناسبات و تصنع الضحكات، و لبس ما هو مثير و سماع الابواق ليلاً و نهارا، و ضجة الساحات و صراخ البائعين؟
ذلك العالم ليس بالسيء، هو فقط لم يخلق من اجلي!
لا ادرى، فالظلام في كل مكان. ما افقهه فقط: هو اني دخلت مرحلة جديده، و علي الآن، الاستعداد لخوض الجهاد الحسن.
الضوضاء تثير معدتي، لكن مهلاً.. لم يكن الهدوء (الخارجي) ليغير شيئاً، فقد كنت في عُزلتي و مع ذلك اصبح كل شيء ضرب من الفوضى.
تلك الفوضى كانت هنالك منذ الامد، و لكني اخترت الاّ ارى. كنت اعيش و عيناي قد تعودتا الضباب، الآن و قد انقشع، بات الأمر و كأنّ الأرض تعيد ترتيب نفسها. على أية حال، الفوضى و الترتيب، هما وجهان لعملة واحده، و لكننا اغبى من ان ندرك تلك الحقيقه في وقت باكر.
لا جدوى الآن من الحديث الرتيب، فلا خلاف على ان الأمر سيجذبني نحو التيه اذا استمر على هذا النمط.. فلابد من اخذ التدابير.
يقولون أنّ أول خطوات حل المعضله: هي ادراكها. لا اريد الاعتراف! و لكن الحمل قد ارهق كاهلي! كم كنت مخطئه .. كم كنت عمياء! وحدها عناية الرب، جعلتني أنجو من الحياة حتى الآن.
يقول غاندي: { أيّ شـيء تفعلـه في هذه الحــياه لن يكـون ذو أهمــيه، و لكـن من المـهم جداً أن تفعلــه }. اعتقد انني قد وجدت الحل تواً.. سأمضي قدماً.
سأمضي من الآن فصاعداً لا أطمع في اذاعة صيت، لا أرغب في فعل ما هو عظيم، لا أريد حتى ان أُعرف.أُريد فقط ان ألِـج الى ذاتي مرة اخرى.. أريد الرجوع الى ذلك العالم المظلم الهادئ.. هو عالم يتميز بالانعزال و الكآبه على وجه عام، و لكنه كفيل بجعلي سعيده. عالمي المظلم ليس بالسئ قط.. لطالما احببته يوماً بعد يوم، لطالما توصلت فيه الى المسالمه، مع الكون.. مع العوالم الموازيه.. و حتى مع نفسي. ادركت الآن فقط كم كان مميزاً ذلك السواد. الآن و قد خرجت، أدركت أنّ الخروج كان بالذات، هو الحل و ليس المشكله.
ها قد تحررت.. لا ذكريات تقيدني، لا أرق يفـتك بي، و لا جراح تأبى ان تبرأ.. يكفيني الآن، شيءٌ من نسمات الصباح، و كوب من الشاي مع اللبن المقنن المقرف.. لابأس! فبعض السوء في الحياة؛ هو من أساسياتها.. فكمال العيش عند الفردوس، و ليس على ظهر البسيطة.
الآن فقط سأتمهل لاستنشق ببطءٍ.. الجمال، و ألفُظ الوهن. سأكتفي بما لدي، و أعثر على الحياة في آخر رشفة من كوبي.. و سأتلذذ بنسمات الصباح البارده و هي تداعب خصلاتي، أُراقبها بصـمت، و هي تضع بقبلةٍ صغيره على خدي..أعرف مَنْ صاحبها.. فأبتسم .


البُعــد و قد كان..

قالت لي صديقتي يوماً : ان اقصى مراحل الحب هي الكراهيه، ولكن كيف لقلبك ان يتبدل كرهاً بعد ان ملئته اسمى معالم الحب؟ كيف له ان يرخص مبدأ العشق، بعدما اشتراه بثمن لم يكن ببخس. كيف يمكن ان تساوره الشكوك من كل الجهات، بعد القناعه التي تحتم ان الحب يصنع المعجزات.

الاجابه هي: البعد ينهش جدار الاحبه.
لا اقصد البعد المكاني، فعلى اي حال، لا احبذ كثرة اللقيا و كثرة التخاطر الحسي، و لكن البعد الروحي هو ذلك ما يفتك بحبال العلاقات.
البعد هو سلاح ذو حدين، هو يقرب و يبعد في آن، لكن يجب الا يشادد الطرفان؛ فينتهي المطاف بشظايا نهاية صراع لم ينجح في اخراج اي ناجين. فكل القلوب قد تحطمت اثر الركض وراء النصر، و لم يدرك اصحابها، ان العشق لا يعرف النصر ابداً و لا يألف المعارك.


اماه..




أمي بسيطه حد الجمال، ففي صباح العيد تكتفي فقط بكوب من الشاي، بعدما ارهقها الصيام شهراً, تكتفي فقط بتوزيع الابتسامات و نشر اسباب السعاده على ظهر البسيطه، لا ترجو من الله إلا سعادتنا و عفوه و الجنه. تلك هي غايتها الثلاثيه..منذ الامد و حتى الأبد.
تكتفي في صباح العيد بعناق أبي الطويل، وحده كفيل بجعلها ترى أنّ العالم اصبح بصورة مفاجئه, لا تشوبه أيُّ شائبه ، و كأن الكون بأسره قد تواطأ معها؛ فقط لتتجلى لها صورة الحب الالـٰهي: متمثلة في أبـي.
أمي لا تزال طفلة في مكان ما, ارى ذلك كلما راقبتها بصمت و هي تنام قريرة العين، لا يهمها كثيراً ما يجول في الدنيا، فهي دار الزوال كما تقول.
أمي ليست كجميع البشر.فلا تجد للغل في قلبها سبيلا، لا تجد آثاراً للغضب على وجهها، هي هادئه،  تماماً كوقت السحر، تتحدث بسكينة و رويه.
أمي بالتأكيد قد أدركت اسرار الحب الكوني و العظمه الروحيه, فهي بلا شك، تتحدث اللغة الكونيه! 
انا اليوم لا اتكلم عن أمي بفهوم الأمومه, لا اتكلم عن تلك التي أنشأتني و جعلتني اتنفس الحياه. لا سبيل للتحدث عن ذلك، فثمانية و عشرون حرفاً بالكاد تكفي لكتابة صفحة واحد من سلسلة لا متناهيه. انا اليوم اتحدث عن شخصها في ذاتها, اتحدث عنها هي بالذات, عن كيانها الوجداني, مجرده من جميع التسميات.. اتحدث عن أمي الانثى الراقيه, التي صعدت الى اسمى مراتب الجمال الروحي، الأنثى التي تعيش في ظلال السلام.
أمي هي تلك من يحمل قلباً يسع الكون، والفضاء الذي حوله، و بضع مجرات من هنا و هناك, تُسامح كثيراً و لا تعاتب اطلاقاً, تبادر دائماً، و لا تقايض ابداً, لا تهتم كثيراً بما قد قيل و قال. يكفيها فقط بعض الاخبار الجيده و أنّ الجميع بخير. قلب امي لا يهوى الهموم؛ فقد تشبّع بما يكفيه من الحب!
أمي أنيقة جداً. تقتني ثيابها بكل سهوله، و تضفي عليها شيئاً من طيب وجودها, فتصير من ارقى الموجودات!
لا يزال وجهها يحمر خجلاً كلما داعبها أبـي بلطيف الكلام، ولا يزال حديثها مع جدتي هو الاكثر اهميةً من اي حديث في الكون, لا تزال ضحكتها هي ما تنتشلنا جميعاً من الهم، و تجعلنا في حالةٍ من الانخطاف اللاحسي، فنتزود بجرعات مجانية من السعاده مع كل ضحكه.
اعتقد ان تسميتها كانت نوع من العدل الالٰـهي؛ فهي بكل حق ( الإنصاف ) فقد أنصفت عندما أخذت حقها من كل شيء: من السمو, الحياء, السلام.
امي لم تَظلِم قط.! فقد أخذت ما يكفيها من الجمال و جلست بهدوء تقسمه بين البشر بكل سخاء.
أمي ببساطه تعرف جيـداً ما معنى ان تكون شخصاً يصنع الفارق, فهي تتنفس على معاني الانسانيه، و لاتنوي يوماً تغيير انفاسها عن معنى غير ذلك. 
لا ادري .. و لكن اذا أُجيز الكمال للبشر, لكانت أمي هي سبب إجازة القرار.
دمت و دامت ايامك.
دمتِ لنا عيدا.
دمتِ لنا حياةً..
دمت لنا يا من تعلمينا كيف نعشق الحياه بأبسط تفاصيلها.

الحـــب اللإلَهي..

#اغابي ( الحب الإلـــٰهي )


حسناً, لنتحدث قليلاً عن شعورٍ يتحدث اللغة الكونيه، ليس بصورته المبتذله التي حاول البعض عكسها, و لكن بمنظور مختلف قليلاً؛ عله ينقذ من فقد الإيمان بوجوده.
الحب حسب تفسيري البسيط: ليس شعور يمكن تناقله بين المجموعات. فلو سألتني: صفِ لي الحب؟ سيكون وقع سؤالك : صفِ لي الجمال؟ مرئي و محسوس،  لكن مهما ساعدتنا الحروف، لن يبلغ الوصف كمال الرؤيا, كما لن يبلغ وصف الحب كمال الشعور.
الحب في أصدق حالاته هو هبة. ليس ذلك الحب الغريزي او ( ايروس ) كما اسماه بتروس في  رواية ( حاج كومبوستيلا ) بل هو من عطايا الرب، هو منحه يجب ان نشكر عليها، لا ان نتضجر من عذابها. فالنار تدفئ و تضيئ، لكن انت من اخترتَ ان تحترق.
الحب يا صديقي هو ان تُقــدّر رفيقك الذي بجانبك, و ان ترى الجمال بداخله يوماً بعد يوم، ليس بالضروره ان يكون بشراً، نعم. فالحب الإلـٰهي علمنا ان نستشعره في كل شئ: النجوم، الشجر، الرمل، حتى في تلك الصخور التي تفتقر ادنى اسباب الحياه، فبحكم حالنا كبشر, نحتاج ان نتجرّع الجمال من كل مكان و في اي زمان، فنحن من نختار الجمال ) أوليس كذلك يا رفيقي؟الحب هو قارب النجاة من قسوة الدهر الى طيب الحياة, من ظلمة الظلم، الى نور الأمل، من غَرَقِ التشتت، الى شاطئ الصمود.
الحب هو التقبل الكلي و التسليم الأوحد للقدر, هو الايمان الكامل بأن الكون كله يتطاوع معك, حتى و ان ابدى عكس ذلك فمن حين الى آخر، لابد من اظهار بعض الوجوه المظلمه حتى نُدرك عظمة النور.
الحب هو الادراك فوق الحسي  لما يجري حولنا. هو التماس الوجود في اصغر مقومات الحياة. هو ادراك الجبروتيه في صرخة طفل حديث الولاده. هو التسليم المُطلق بوجود القوه العليا, ولو كان متمثلاً في ومضة ضوء؛ فومضة الضوء من الأرض, هي انفجار نجم في السماء!
الحب هو الصمت عند حضرته. نصمت كما نصمت امام البحر - هو على درجة من الاتساع تجعلنا نستصغر الكلمات عنده -.
الحب هو ذلك الشعور في حضرة اللاشعور..هو التردد و لكنه الثبات، هو الخوف و لكنه الطمأنينه، هو بالذات النكران و لكنه يُجسّد الوجود.
حب البشر على وجه الخصوص, هو الاكثر تعقيداً، لكنه الاغنى معنىً. هو في الغالب الأكثر عذاباً، لكنه الاعمق أثراً.
يبلغ الحـب كماله: عندما نتوقف عن طرح اسبابه و نلهث نحو تفسيره. قال بالو كويلو " انـنا نُحــب لأننا نحـب ليـس هنالك ايُّ سبـبٍ للحــب "
فلنتجنب  الاسباب و لنأخذ بالمسببات, فهنالك من يحتاجك، انت بالذات, بتجسدك فقط. فقد اضطرب معك احساسه, و تسارعت نبضاته و تداخلت كلماته و .... مهلاً...يا لسخرية القدر!! هأنذا اتكلم عن صورة الحب المبتذل بالذات! و لكن من يعلم, قد يكون المبتذل في بعض الاحيان هو حقاً الأقرب الى الواقع.


موعـد الحادية عشره

موعد_الحادية_عشره#
  

 !..يا الُهي كم الرائحه سيئه
اعين الناس الباهته تحكي عن اوجاع بدت هينه عند مقارنتها باوجاع الانتظار. الآن الساعه الواحده و الخمسون دقيقه، عشر دقائق و اكون قابعة في مكاني هذا لاربعة ساعات متتاليه. لم تكن عقارب الساعه لتزيد من سرعتها حتى و ان رجوتها. كم اكره مواعيد الطبيب!
ذلك الرجل الاربعيني يتربصني بأعين حاولت ان تكون اعين اعجاب، لكن سرعان ما تلاشت مع الزمن ف اصبحت نظرات مخيفه ليس الا. على يميني تقبع امرأه يبدو ان جميع محاولاتها في فتح حوار معي قد باءت بالفشل، تتململ في جلستها التي يبدو انها طالت اكثر من اللازم، و تهاجم مساعدة الطبيب بين الحين و الاخر بنظرات ساخطه وهي تحمل كل اللفظات البذيئه بحدقاتها. 
في الطرف الاخر من القاعه _ذات الجو الجهنمّي_ اشخاص قد محت ثمالة الايام اي اثار للفرح في اعينهم، ينتظرون دورهم كمن ينتظر حتفه تماماً: شيئاً فقط ليخلصهم من عبء تحمل الانتظار.
صرخات الاطفال تكتد تفتق بأذنيّ، يا الٰهي كم الرائحه كريهه! 
"هل تملكين تذكره؟" سألتني المرأه التي بيميني، هذة المره كانت عيناها تتوسل في بدء حوار بدت انها كانت تحول به بينها و بين غرقها في يأسها، كمن يحاول التشبث بالحياة لآخر مره، قرأت كل الاسى في عيناها، قرأت رجائها الشديد في بدء محاورة تنتشلها من تبعثرها، قرأت حسدها الشديد تجاه كتابي " مرسى فاطمه " الذي لم اتوقف عن قرائته منذ ان حضرت، كانت تقول لي بكل اللغات: انقذيني من يأسي، ارجوك.
لم تكن بيدي حيلة، حاولت بكل حواسي ان اصبرها ببضع كلمات مبتذله، ان ابشرها أن الفرج قريب، و دورها سيحين قريباً. لكني كنت اعلم ان مجرد تلفظي بحرف واحد سيدخلني في دوامة من الحديث غير المجدي، و ان لا شيء لديه القدره في انقاذي من ذلك الحوار الذي سيفتقد ابسط ملامح الاهميه. انتبهت للحظه انها ما زالت تحدق بي بنفس نظرات الرجاء، في انتظار اجابة تكون مرسى لسفينة يأسها الموشكه على الغرق، أكتفيتُ بإيماءة من رأسي تدل على الايجاب. ثم اسهبتُ النظر بعيداً. سندتْ ظهرها على كرسيها ثم اطلقت تنهيدة عميقه تدل على استسلامها لاقسى انواع الانهزام. كانت بلا شك قد ايقنت بُعد الشاطى، و اختفاء المرسى. بدوري عدت الى كتابي يتخللني شيء من الشعور بالذنب الذي لم اعره اهتماماً بالطبع.
تجلس هنالك مرتدية ثوباً يشبه ثياب الجنائز، ذلك الذي ترتديه النسوه عندما يموت زوج احداهن، مع ربطة رأس مُحكمه؛ كأنها تسيطر بها على الشتائم بداخل راسها حتى لا تأتي منسكبة. لم تكن احتجاجات المرضى و اتهامهم بعدم المصداقيه في التسجيل، ليحرك انشاً واحداً فيها، تتعجرف بانها مساعدة الطبيب و انها تتقن عملها. كانت ترمق جميع من يواجهها بشديد الكلام بنظرات بارده من تحت نظاراتها القبيحه ثم تكتفي برد واحد فقط : " انا عندي ورقه مسجله فيها الناس الحيدخلوا، لو ما مسجل فيها ما تجيني "
لم يقطع انهماكي مع سلمى المفقوده في معسكرات ساوا في احداث الروايه، إلا صوت قد ارهقه الالم صادر من  تلك العجوز المسكينه التي كانت جالسة على يساري، لم التفت اليها قط عندما جلست، أتت بخطوات ثقال تسندها بعض الايدي و جلست بهدوء حتى انني نسيت وجودها تماماً. اعادني صوتها الدافئ الى صوت جدتي الذي اعشقه، خصوصاً أنه الصوت الوحيد الذي كان يسلب الضحكات مني عنوة في ايام صغري. التفتُ لها و قد ارتسمتْ على وجهي ابتسامه لم ابخل بها. اعتذرتْ لي اولاً عن اضطرارها لقطع قرائتي، فأخبرتها ان لا تثريب عليها، يبدو ان جسدها المهترئ لم يعد باستطاعته تحمل هذة الجلسه الفاتره، فما كان لها الا تطلب مني بصوت قد كسره الزمن: ان اسندها الى بيتها التي اشارت انه قريب جداً. لم افكر ابداً و سارعت باغلاق كتابي و ادخاله في حقيبتي، و اخبرت المساعده انني سوف اتي قريباً.
كانت تجاعيد العجوز تحكي عن ذكريات لم يبدو ان الزمن قد نجح في اخفائها، فلديها ابتسامة تحمل في طياتها كل انواع الفرح و الحب، قد اغمرت جميع القاعه بلطف غريب. اتأكت عليّ بلطف شديد و بدأنا السير، ما ان خرجنا من باب القاعه، حتى بدأت في الاعتذار الشديد عن طلبها الذي اعتبرَتهُ مرهقاً جداً، فبالرغم من محاولاتي العديده في ابراز راحتي و عدم تضجري؛ لم افلح في التخفيف من وطأة شعورها بالذنب. سرنا بمحاذاة الشارع الرئيسي، و بدأت السيده في التحدث عن بيتها، كيف ورثته من ابيها، و رممته بغرض لم شمل العائله التي فرقتها الازمان و الامكنه، ثم شرعت في وصف قوة علاقتها بأخوتها و ايامهم البهيه في قرية " المجلد"، وعن حبها الشديد لعائلتها و روحها التي ترتد اليها كل ما زارها احدهم، لم تكن لدي الرغبه في الكلام، كنت فقط اريد ان اسمع كلام هذه السيدة، اريد ان اتجرع بعض الكؤوس من انهار حبها العظيم التي تسكبها لي من غير ان تشعر.
كانت الطريق وعره للغايه، تضغط على ساعدي كل ما تقدمنا، في دلالات واضحه على التعب و الارهاق، لكنها و مع ذلك، حافظت على تلك الابتسامه التي خلت من الاسنان، و امتلئت بنقاء العالم.
بدأتْ في شكري و عن عدم قدرتها في التعبير عن امتنانها لي، فتنبأتُ باننا قد اقتربنا من الوصول، و قد آلمتني هذه الحقيقه كثيراً. عندما وصلنا الى وجهتنا، 
اخذتْ في لفظ ادعية لم اكن أئلفها، كانت تدعو بالتوفيق و السداد، و ان انال ما اريده في هذة الدنيا دون ان أُنسى في الاخره، كنتُ ألتمس الصدق الاعظم في كلماتها، و اتعجب من قدرتها الكبيره على منح هذا القدر من الحب لانسان بالكاد تعرفه. اخيراً اختتمت ادعيتها بحضن قد انتشلني من زهو الحياه، ذلك الذي يملك قدرة شفائيه بالغة الاثر، غصتُ معه في دهاليز النقاء، اكتفيت انا بابتسامة فقط، رأيتُ انها ابلغ من اي كلمة انطق بها، فهمتها العجوز و فسرتها ثم قالت لي: اسأل الله ان اراك مجدداً يا حبيبتي. امنتُ على دعائها، ثم انطلقت و نفس الابتسامه مرسومة في وجهي على  طول الطريق القصير.
عندما حضرت كان الطبيب قد حضر تواً. تحسرت للحظه على السيده التي اضطرت الى فوات الموعد، ثم سرعان ما تلاشت الفكره عندما تذكرت قولها انها تسكن قريباً و يمكن ان تعود في اي وقت اخر. لاح لي الاقتباس: " خُلق الاوان فقط لكي يفوت " ، عدت الى كرسيّ الذي بات كانه ينتظرني بفارغ الصبر، و نظرات المرضى تلاحقني ايضاً.
 " حضر الطبيب!" قالتها المرأه التي على يميني كمن يحمل بشارة النصر. مرة اخرى فشلت محاولاتها بقولي: اجل لقد لاحظت سيارته بالخارج.
كان بعض الوافدين الجدد يتشاددون مع المساعدة في ان دورهم كان اولاً، و انهم كانوا اول الحاضرين، مرة اخرى ترمقهم بنظرة خاليه ثم تقول: انا بشتغل حسب ترتيب اللسته حقتي. مجدداً يعودون و ليس عليهم سوى الانصياع، غريب امر هؤلاء البشر، يتمسكون بالحياة بدون رغبة جامحة فيها. 
دخل رجل يبدو انه قد خسر كل اسباب النجاة، قرأتُ جميع الاسى في عينيه، يحمل احزان الامس و اليوم و ربما شيء من الم الغد، قد اهترأ قلبه قبل ملابسه، دخل كأنه كان في صراع دامي بينه و بين رغبته بالاستمرار في الحياة. سينفجر اذا تحدث اليه شخص ما. هو المفجوع الذي قدِم ليعيش فاجعة اخرى.
 نظرتُ بعيداً افكر، نجحت العجوز مجدداً في احتكار افكاري، كيف؟ أ للسن تأثير؟؟ ام هي قد ولدت بهذة الروح؟ تذكرت قول جدتي: "الاشياء تكتسب معانٍ اعمق كلما تقدم الانسان في السن، فجميع الاشياء التي نعيرها انتباها كبيراً في الماضي، تغدو غير ذات اهميه لاحقاً، السعاده تبدو قريبة جداً من كبار السن.." ربما كان ذلك هو السبب حقاً، على اي حال، كانت كلمات العجوز تتراقص في راسي و كانها علمت وقعها المدوي على قلبي فارادت ان تثبت جبروتها الطاغي، شيئاً فشيئاً تلاشت الجموع من حولي، و اصبحت الاصوات على بعد الاف الكيلوميترات، امسيت سجينة عالم خاو تماماً الا من تلك الابتسامه. شعرت بسعادة غامره، و كانها طريقة الكون بإخطاري ان السماء لابد لها من الصفاء، و ان الشتاء قادم لا محاله، و ان الجمال يقبع بداخلنا و ليس من حولنا. كانت لحظةً من الكمال، وكأنني استرقت النظر فيها الى البرزخ الآمن، كيف هو حال عقولنا في الجنه؟ يا الٰهي اوعدنا صفاء البال. احسست بصوت يقترب كثيراً من اذني، انتبهت مرتبكة الملم بقايا شتات نفسي من العالم الموازي، حتى اتلقى صفعات هذا العالم ذو الرائحه الكريهه. بصخب اعادت المساعده ذكر اسمي كاملاً : فاطمه معتصم مدني! 
اااه.. و اخيراً حان دوري.