الجمعة، 28 أكتوبر 2016

موعـد الحادية عشره

موعد_الحادية_عشره#
  

 !..يا الُهي كم الرائحه سيئه
اعين الناس الباهته تحكي عن اوجاع بدت هينه عند مقارنتها باوجاع الانتظار. الآن الساعه الواحده و الخمسون دقيقه، عشر دقائق و اكون قابعة في مكاني هذا لاربعة ساعات متتاليه. لم تكن عقارب الساعه لتزيد من سرعتها حتى و ان رجوتها. كم اكره مواعيد الطبيب!
ذلك الرجل الاربعيني يتربصني بأعين حاولت ان تكون اعين اعجاب، لكن سرعان ما تلاشت مع الزمن ف اصبحت نظرات مخيفه ليس الا. على يميني تقبع امرأه يبدو ان جميع محاولاتها في فتح حوار معي قد باءت بالفشل، تتململ في جلستها التي يبدو انها طالت اكثر من اللازم، و تهاجم مساعدة الطبيب بين الحين و الاخر بنظرات ساخطه وهي تحمل كل اللفظات البذيئه بحدقاتها. 
في الطرف الاخر من القاعه _ذات الجو الجهنمّي_ اشخاص قد محت ثمالة الايام اي اثار للفرح في اعينهم، ينتظرون دورهم كمن ينتظر حتفه تماماً: شيئاً فقط ليخلصهم من عبء تحمل الانتظار.
صرخات الاطفال تكتد تفتق بأذنيّ، يا الٰهي كم الرائحه كريهه! 
"هل تملكين تذكره؟" سألتني المرأه التي بيميني، هذة المره كانت عيناها تتوسل في بدء حوار بدت انها كانت تحول به بينها و بين غرقها في يأسها، كمن يحاول التشبث بالحياة لآخر مره، قرأت كل الاسى في عيناها، قرأت رجائها الشديد في بدء محاورة تنتشلها من تبعثرها، قرأت حسدها الشديد تجاه كتابي " مرسى فاطمه " الذي لم اتوقف عن قرائته منذ ان حضرت، كانت تقول لي بكل اللغات: انقذيني من يأسي، ارجوك.
لم تكن بيدي حيلة، حاولت بكل حواسي ان اصبرها ببضع كلمات مبتذله، ان ابشرها أن الفرج قريب، و دورها سيحين قريباً. لكني كنت اعلم ان مجرد تلفظي بحرف واحد سيدخلني في دوامة من الحديث غير المجدي، و ان لا شيء لديه القدره في انقاذي من ذلك الحوار الذي سيفتقد ابسط ملامح الاهميه. انتبهت للحظه انها ما زالت تحدق بي بنفس نظرات الرجاء، في انتظار اجابة تكون مرسى لسفينة يأسها الموشكه على الغرق، أكتفيتُ بإيماءة من رأسي تدل على الايجاب. ثم اسهبتُ النظر بعيداً. سندتْ ظهرها على كرسيها ثم اطلقت تنهيدة عميقه تدل على استسلامها لاقسى انواع الانهزام. كانت بلا شك قد ايقنت بُعد الشاطى، و اختفاء المرسى. بدوري عدت الى كتابي يتخللني شيء من الشعور بالذنب الذي لم اعره اهتماماً بالطبع.
تجلس هنالك مرتدية ثوباً يشبه ثياب الجنائز، ذلك الذي ترتديه النسوه عندما يموت زوج احداهن، مع ربطة رأس مُحكمه؛ كأنها تسيطر بها على الشتائم بداخل راسها حتى لا تأتي منسكبة. لم تكن احتجاجات المرضى و اتهامهم بعدم المصداقيه في التسجيل، ليحرك انشاً واحداً فيها، تتعجرف بانها مساعدة الطبيب و انها تتقن عملها. كانت ترمق جميع من يواجهها بشديد الكلام بنظرات بارده من تحت نظاراتها القبيحه ثم تكتفي برد واحد فقط : " انا عندي ورقه مسجله فيها الناس الحيدخلوا، لو ما مسجل فيها ما تجيني "
لم يقطع انهماكي مع سلمى المفقوده في معسكرات ساوا في احداث الروايه، إلا صوت قد ارهقه الالم صادر من  تلك العجوز المسكينه التي كانت جالسة على يساري، لم التفت اليها قط عندما جلست، أتت بخطوات ثقال تسندها بعض الايدي و جلست بهدوء حتى انني نسيت وجودها تماماً. اعادني صوتها الدافئ الى صوت جدتي الذي اعشقه، خصوصاً أنه الصوت الوحيد الذي كان يسلب الضحكات مني عنوة في ايام صغري. التفتُ لها و قد ارتسمتْ على وجهي ابتسامه لم ابخل بها. اعتذرتْ لي اولاً عن اضطرارها لقطع قرائتي، فأخبرتها ان لا تثريب عليها، يبدو ان جسدها المهترئ لم يعد باستطاعته تحمل هذة الجلسه الفاتره، فما كان لها الا تطلب مني بصوت قد كسره الزمن: ان اسندها الى بيتها التي اشارت انه قريب جداً. لم افكر ابداً و سارعت باغلاق كتابي و ادخاله في حقيبتي، و اخبرت المساعده انني سوف اتي قريباً.
كانت تجاعيد العجوز تحكي عن ذكريات لم يبدو ان الزمن قد نجح في اخفائها، فلديها ابتسامة تحمل في طياتها كل انواع الفرح و الحب، قد اغمرت جميع القاعه بلطف غريب. اتأكت عليّ بلطف شديد و بدأنا السير، ما ان خرجنا من باب القاعه، حتى بدأت في الاعتذار الشديد عن طلبها الذي اعتبرَتهُ مرهقاً جداً، فبالرغم من محاولاتي العديده في ابراز راحتي و عدم تضجري؛ لم افلح في التخفيف من وطأة شعورها بالذنب. سرنا بمحاذاة الشارع الرئيسي، و بدأت السيده في التحدث عن بيتها، كيف ورثته من ابيها، و رممته بغرض لم شمل العائله التي فرقتها الازمان و الامكنه، ثم شرعت في وصف قوة علاقتها بأخوتها و ايامهم البهيه في قرية " المجلد"، وعن حبها الشديد لعائلتها و روحها التي ترتد اليها كل ما زارها احدهم، لم تكن لدي الرغبه في الكلام، كنت فقط اريد ان اسمع كلام هذه السيدة، اريد ان اتجرع بعض الكؤوس من انهار حبها العظيم التي تسكبها لي من غير ان تشعر.
كانت الطريق وعره للغايه، تضغط على ساعدي كل ما تقدمنا، في دلالات واضحه على التعب و الارهاق، لكنها و مع ذلك، حافظت على تلك الابتسامه التي خلت من الاسنان، و امتلئت بنقاء العالم.
بدأتْ في شكري و عن عدم قدرتها في التعبير عن امتنانها لي، فتنبأتُ باننا قد اقتربنا من الوصول، و قد آلمتني هذه الحقيقه كثيراً. عندما وصلنا الى وجهتنا، 
اخذتْ في لفظ ادعية لم اكن أئلفها، كانت تدعو بالتوفيق و السداد، و ان انال ما اريده في هذة الدنيا دون ان أُنسى في الاخره، كنتُ ألتمس الصدق الاعظم في كلماتها، و اتعجب من قدرتها الكبيره على منح هذا القدر من الحب لانسان بالكاد تعرفه. اخيراً اختتمت ادعيتها بحضن قد انتشلني من زهو الحياه، ذلك الذي يملك قدرة شفائيه بالغة الاثر، غصتُ معه في دهاليز النقاء، اكتفيت انا بابتسامة فقط، رأيتُ انها ابلغ من اي كلمة انطق بها، فهمتها العجوز و فسرتها ثم قالت لي: اسأل الله ان اراك مجدداً يا حبيبتي. امنتُ على دعائها، ثم انطلقت و نفس الابتسامه مرسومة في وجهي على  طول الطريق القصير.
عندما حضرت كان الطبيب قد حضر تواً. تحسرت للحظه على السيده التي اضطرت الى فوات الموعد، ثم سرعان ما تلاشت الفكره عندما تذكرت قولها انها تسكن قريباً و يمكن ان تعود في اي وقت اخر. لاح لي الاقتباس: " خُلق الاوان فقط لكي يفوت " ، عدت الى كرسيّ الذي بات كانه ينتظرني بفارغ الصبر، و نظرات المرضى تلاحقني ايضاً.
 " حضر الطبيب!" قالتها المرأه التي على يميني كمن يحمل بشارة النصر. مرة اخرى فشلت محاولاتها بقولي: اجل لقد لاحظت سيارته بالخارج.
كان بعض الوافدين الجدد يتشاددون مع المساعدة في ان دورهم كان اولاً، و انهم كانوا اول الحاضرين، مرة اخرى ترمقهم بنظرة خاليه ثم تقول: انا بشتغل حسب ترتيب اللسته حقتي. مجدداً يعودون و ليس عليهم سوى الانصياع، غريب امر هؤلاء البشر، يتمسكون بالحياة بدون رغبة جامحة فيها. 
دخل رجل يبدو انه قد خسر كل اسباب النجاة، قرأتُ جميع الاسى في عينيه، يحمل احزان الامس و اليوم و ربما شيء من الم الغد، قد اهترأ قلبه قبل ملابسه، دخل كأنه كان في صراع دامي بينه و بين رغبته بالاستمرار في الحياة. سينفجر اذا تحدث اليه شخص ما. هو المفجوع الذي قدِم ليعيش فاجعة اخرى.
 نظرتُ بعيداً افكر، نجحت العجوز مجدداً في احتكار افكاري، كيف؟ أ للسن تأثير؟؟ ام هي قد ولدت بهذة الروح؟ تذكرت قول جدتي: "الاشياء تكتسب معانٍ اعمق كلما تقدم الانسان في السن، فجميع الاشياء التي نعيرها انتباها كبيراً في الماضي، تغدو غير ذات اهميه لاحقاً، السعاده تبدو قريبة جداً من كبار السن.." ربما كان ذلك هو السبب حقاً، على اي حال، كانت كلمات العجوز تتراقص في راسي و كانها علمت وقعها المدوي على قلبي فارادت ان تثبت جبروتها الطاغي، شيئاً فشيئاً تلاشت الجموع من حولي، و اصبحت الاصوات على بعد الاف الكيلوميترات، امسيت سجينة عالم خاو تماماً الا من تلك الابتسامه. شعرت بسعادة غامره، و كانها طريقة الكون بإخطاري ان السماء لابد لها من الصفاء، و ان الشتاء قادم لا محاله، و ان الجمال يقبع بداخلنا و ليس من حولنا. كانت لحظةً من الكمال، وكأنني استرقت النظر فيها الى البرزخ الآمن، كيف هو حال عقولنا في الجنه؟ يا الٰهي اوعدنا صفاء البال. احسست بصوت يقترب كثيراً من اذني، انتبهت مرتبكة الملم بقايا شتات نفسي من العالم الموازي، حتى اتلقى صفعات هذا العالم ذو الرائحه الكريهه. بصخب اعادت المساعده ذكر اسمي كاملاً : فاطمه معتصم مدني! 
اااه.. و اخيراً حان دوري.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق